أمام شاهد القبر تعصف عقلها وتسترجع نحيب الذكريات ، هناك أشياء كثيرة دفنت هنا ، دفن الحبيب ودفنت الروح ودفن القلب معاً ، كل شيء مر سريعا كحال كل الأشياء الأجمل في حياتنا ، طيف جميل عاش معها قليلاً ولكن عليها أن تعيش حياتها كلها لكي تنساه ولن تستطيع .
هي
تذكر كيف أنها أدركت وللوهلة الأولى أن ذلك الشخص الذي تقدم لطلب يدها هو فارس
أحلامها ورجل حياتها ويوم سعدها ، فوافقت على الفور ودون تردد ، وعندما قالو بانه
مقاتل من الطراز الرفيع وأن حياته على الكف دائماً تربع بقوة على عرش قلبها ،
وعندما أخبرها بأنه يرابط على حدود الموت كثيراً صححت حديثه قائلة بأنها حدود
"الشهادة" فتعمقت مكانتها في مكامن روحه أكثر فأكثر ، وهكذا كلما يمر
يوم يزداد حبهما أكثر ، رغم أن كلاهما كان متأكداً بأن الموت وفق تعبيره والشهادة
وفق تعبيرها قريب جداً من أحدهما كقرب بعضهما من بعض ، ولكن "حلاوة" الحب
أفضل من "مر" الحقيقة .
توالت
الأيام خلف بعضها ، وكل يوم يحمل معه أنباءً وأخباراً وقصصاً وحكايات كثيرة ، ذلك
أن معايشة الموت ومعايشة الحصار والحياة مع شخص مهدد بالموت له معنىً خاص ،
فالإنتقال في غزة من يوم ليوم هو مسألة شاقة كثيراً ، وعلى الجميع أن يتحملها وأن
يدفع ثمنها كثيراً إما دماً وإما عرقاً وإما صبراً أو دموعاً ، وأحياناً بكلهما
معاً .
وكلما
عاد مرهقاً بعد رباطه الليلي حمدت الله كثيراً وقبلت جبينه وكذا البندقية ، إذ أن
العيش في أكناف الحب يجعلك تستسيغ التعايش مع القصف والحصار ولظى العيش وأهوال
المعيشة الصعبة ، والحياة في ظلال من نحب تجعل من كل الأشياء المدمرة والصاعقة
والحارقة معيناً أكثر على الترابط والأنسة أكثر .
علينا
أن نقبل واقعنا كما هو وان نرضى بما كتب علينا من أهوال ، ويكفينا رصيد الإيمان وبعضٌ
من جرعات الحب لكي نصمد أكثر وأكثر وأكثر ، وأن نحاول بقدر الإمكان التوفيق بين
المتناقضات والصبر على الإبتلاءات فكلها في موازين الموت والحياة لها قيمة كبيرة .
أخيراً
جاء خبر شهادته مسكاً عليها ، صحيح أن فراق من نحب يشبه اقتلاع الروح من الجسد
وأشد ، وأن الحياة في ظل الفقد هي حياة لا تستحق أن يعيش بها الانسان يوماً واحداً
، ولكن الحب ليس ميزاناً واحداً تقاس به الأشياء بل هناك "الأرض
المقهورة" وهناك "الإيمان الوثاب" وهناك "الجهاد الأسمى"
وكلها أشياء لها ضرائب مرتفعة وأثمان باهظة الدفع ، ولذلك كان عليها أن تحذر
قليلاً من الدمعة الأولى والجزع الأول ، إذ أن حبيبها ما كان ليرضى ذلك كله ، وأن
الثبات على خبر شهادته جزء من "وفاء" الحبيب إلى الحبيب ، ولكن أقنعت
نفسها أخيراً بضرورة البكاء ، ذلك أن البكاء أيضاً أسمى تعبير يمكن أن يقدمه الشخص
على فقدان من يحب ، لقد رحل عنها في ليلة باردة مظلمة ، وتركها وحيدة مع ابنهما الوحيد
، رحل وأخذ معه كل الأشياء الجميلة التي كانت بينهما ، رحل مع أطيار السنونو
المهاجرة ، سيترك في حياتها حيزاً لا يمكن أن يمتلأ أبدأ ، وعليها رغم ذلك كله أن
تتأقلم مع حالتها الجديدة ، وهي تعلم جيداً أن الشهادة أروع ما يمكن أن يقدمه
الإنسان لدينه ولوطنه ، لأن الجود بالدم أسمى مراتب الجود ، ويحتاج لأناس يتمتعون
بأعلى مراتب الطهر والعظمة ، وأن ينال حبيبها "شرف" الشهادة فهذا يعني
أن منذ تلك اللحظة قد اكتملت صورته الحقيقية في قلبها كاكتمال القمر في الليلة
الرابعة عشر من حزيران .
هكذا
ودعها في نهاية المطاف ، راحلاً عنها وليذكر الجميع كيف أن "الاحتلال
البغيض" قد سرق منا كل ما نحب ، سرق الأرض والتاريخ والإنسان وكذا الحب ،
لكنه أبداً لن يسرق منا قلوبنا ، وما دامت قلوبنا طليقة حرة ستدفعنا دائماً للحب
وللتضحية وللجهاد وللمقاومة ، وأرواح الشهداء ستحلق في كل ركن من أركان فلسطين ،
وستبقى بجانبنا أبداً تلهمنا كل شيء يعيننا على البقاء .
عندما
أقفلت مستودع ذكرياتها هذا ، بكت قليلاً ثم وضعت وردة بيضاء على قبره ، وزرعت بعض
الورود أيضاً ، لأن أكثر مكان من الممكن أن تزهر فيه الورود هو عند قبور الشهداء ،
وهكذا طويت صفحة بطلين ، كلٌ منهما له دوره المختلف في معركة "البقاء"
ومسيرة "الصمود" ، ولكنهما يكملان بعضهما في كل وقت ، حتى وإن رحل
أحدهما عن الآخر ، فستكمل "الذكريات" المسيرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق