الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

مـسـاحـات رمـاديـة / غـربـة الـمـفـكـر





أن تستلقي بين دفة الكتاب والكتاب ، وأن تتجول يومياً بين آلاف الصفحات والكتب والمذكرات والصحف لا يعني أنك قد حزت كل شيء ، لأن "صيرورة" المجتمع  و "مسيرته" لا ترتبطان بك ولا بتلك الكتب المهجورة التي تقرأها ، إن المجتمع له كيانه الخاص وأنت لك كيانك الخاص ، وعندما تخرج من كيانك إلى الكيان الذي يعيش به كيانك تكون الصدمة الموحشة والضربة القاضية والاهتزاز العنيف الذي يفرض عليك من كل شيء حولك ، فحينها عليك أن تختار بين فك العزلة ومعها يكون فك الارتباط بالكتب والثقافة أو فك الارتباط بالمجتمع ، أو الاحتفاظ بخيط دقيق بين المجتمع وبين كيانك الخاص وفق قانون "شعرة معاوية" المشهور .

كل شيء سيصبح عرضة لكل شيء ، والسؤال يتفرع عنه ألف سؤال ، والاجابة أحياناً يجاب عليها ألفي مرة ، وكل شيء أيضاً سيصبح مثاراً للجدل ومثاراً للحيرة والاستفسار ، فالفرق بين "المبدأ" الذي تحمله وبين "تطبيقات" المجتمع وأفعاله أحياناً تكون سحيقة مما يدخلك في دوامة من الاحباط والهجران ، والمصيبة تكمن في كون المجتمع الذي تعيش فيه يعتقد أن هذه الأفعال "المتخلفة" هي صحيحة تماماً ولا يجوز نقدها أو الحديث عنها ، فينظر إليك حتى وأنت مطرق بالسكوت والصمت نظرة الريبة ، فالمجتمع لا يريدك أن تصمت على "التخلف" الموجود بل وأن تشارك فيه ، أحياناً تنجح في الصمت وأحياناً لا تنجح ، فتتخلى عن "المبدأ" وتنشره على حبل الغسيل قليلاً وفي تلك الفترة التي تكون بين "غسل المبدأ" وبين "جفافه" تكون قد فعلت كل ما يطلبه المجتمع وزيادة .

من الصعب أن يعيش الشخص في غربة "مكانية" ومن الأصعب أن يعيش في غربة "زمانية" ولكن من المستحيل أن يعيش في كلاهما ، ولكن المستحيل ليس دائماً مستحيلاً وخصوصاً عندما تتكسر كل قواعد المنطق أمام الحالة "السوداوية" التي تعيشها في ظل مجتمع "متخلف" يعتقد في نفسه الكمال المطلق ويحارب التجديد بل ويحارب من يصمت على "التخلف" .

وحديث المثقف وهمه هذا ليس ترفعاً عن "هم" المجتمع ، ولا "تميزاً" عن الوعي الجمعي ، ولا تبرؤاً من المجتمع المحتضن لأي مثقف ومفكر ، ليس هذه هي "نظرة" المفكر لقومه ، ولكنها حقيقةً هي "هم" المثقف والمفكر معاً ، ذلك أن "الهم" يكون شيئاً سامياً ونبيلاً إذا كان نابعاً من الحرص على "المجتمع" ودفعه نحو الأمام بكل قوة ، بينما النظرة "الاستعلائية" هي مرض "نرجسي" يصيب بعض المفكرين والمثقفين الذين ينعزلون في صالونات مغلقة ويلعنون كل شيء ولكن هذه اللعنات لا تخرج عن حوائط الصالونات الأربعة .

إن العزلة الفكرية والمكانية والزمانية التي يعيشها المفكر لا يجب أن تمنع من "التغيير الحيوي" المناط به ، أحياناً يفشل وأحياناً ينجح ، لكن الأصل أن الرسالة الأخلاقية يجب أن تبلغ بكل الطرق ، بل ربما يكون "الصمت" تعبيراً عن الرسائل والمبادئ الأخلاقية ، إن "التفاعل" بين "الفكر" وبين "فعل" المجتمع يجب أن تتكامل في صيرورة تاريخية مستمرة ، فالتجديد والتغيير هما عملان طويلا الأمد يضطلع بهما "نخبة" الفكر و "نخبة" العاملين و "صفوة" المجتمع .

وبين "سوداوية" الواقع و "اشراقة" المستقبل تبرز التناقضات في تجلياتها الواضحة ، تظهر في أبهى صورها الحقيقية ، إنه نوع من "التمازج" العاطفي الذي تختلط به "المتضادات" مع بعضها البعض ، فلا تدري أهو حزن أم فرح ؟ أم تفاؤل أم احباط ؟ أم خليط منهما معاً ؟ والحقيقة أن الوصف الأدق لحالة المفكر في عزلته وغربته هي ما عبر عنه ايميل حبيبي "التشاؤل" أي التوسط بين حالة التفاؤل وحالة التشاؤم وعدم تغليب أحدهما على الآخر ، لكن رغم ذلك "سمو" الرسالة المحمولة تمنح صاحبها ورغم "العزلات" من كل حدب وصوب شعوراً فائقاً بالقوة وأحياناً بالانتصار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق