تطرح
قضية التجديد على نطاق واسع جداً في مباحث الفكر والعمل الإسلامي ، ذلك أن التجديد
هو ضرورة حضارية لازمة لبناء النهضة وتأسيس العقل والانطلاق في رحاب الحضارة
الانسانية ، وخاصة أن "الدين" في واقعنا وتاريخنا ومستقبلنا أيضاً ليس
شيئاً ثانوياً يمكن تجاوزه أو طرح أي مشروع نهضوي بدونه ، إنما الدين في المشرق هو
"أساس" من أساسات الحياة والمكون الحقيقي لهوية الأمة وتاريخها ، وكان
اللاعب الأبرز في كل الأحداث التي تعرضت لها سابقاً وحالياً ، وأي مشروع نهضوي
وحضاري يجب أن تكون ركيزته الأساسية هي الدين الإسلامي أولاً وأخيراً .
لكن قضية
"التجديد" هي الأخرى لم تسلم من "التشويه" ومن
"الخلط" عند الكثير من التيارات الإسلامية وغير الإسلامية ، كما أن
"التجديد" نفسه وإن كان حاضراً بقوة في خطاب كل الحركات الإسلامية إلا
أن النظرة له تختلف من حركة لحركة ومن تيار لتيار ، فالتجديد مبني أساساً على فقه
"الاجتهاد" وبدون هذا المطلب لن يكون هناك تجديد أساساً ، وكلاً من
"التجديد" و "الاجتهاد" مكملان لبعضهما البعض وزوال أحدهما
يعني زوال الآخر ، و "الاجتهاد" نفسه يعاني من مشكلة التجديد أيضاً سواء
من حيث التشويه أو اختلاف النظر ، فهناك تيارات إسلامية تضع ضوابط كثيرة جداً عليه
حتى تخرجه من مضمونه ، ويصبح الاجتهاد مرتكزاً فقط على أقوال السابقين واسقاطها
على الوقائع المتجددة ، هذا أدى لتكبيل الاجتهاد مما يقود بالضرورة لإعاقة عملية
التجديد الطبيعية ، فمحاربة "الاجتهادات" لدى كثير من المجددين
والإصلاحيين تعني وجود "أزمة" حقيقية عند هذه التيارات تتمثل في كيفية
"الفهم" الحقيقي للدين الإسلامي ، فإذا كان فهم الدين مشوهاً لهذه
الدرجة عند هؤلاء فكيف هو الحال عند العامة وممن يحملون مواقف عدائية من الدين مثل
"العلمانيين" و "الليبراليين" ؟
كما أن
النظرة للتجديد تختلف من تيار لتيار ، فعند البعض تجديد الدين مرتكز على إحياء
العبادات ودعوات الوعظ والارشاد ، بينما عند البعض الآخر يتمثل في احياء فقه
"الجهاد" بينما عند البعض الاخر فإن التجديد يرتكز على "الفقه
السياسي الشرعي" ، وهذا وإن كان محقاً في جانب من جوانب التجديد إلا أنه لا
يقدم تصور متكامل عن التجديد والذي هو ثمرة "الاجتهاد" المستمر ،
فالتجديد يشمل كل مباحث الدين الإسلامي واسقاطها على الواقع ، كما أن نظرة التيار
"العلماني" هي الأخرى مشوهة تماماً ، حيث أنهم ينظرون للتجديد على أنه
"إحلال" لثقافة محل ثقافة الأخرى ، و "طي" صفحة الفقه الشرعي
الإسلامي بكامله ، واختراع فقه يستند لمفاهيم العصر وفق المفهوم والحضارة الغربية
طبعاً وهذا خطأ .
إذ أن
حركة التجديد "الحضاري" تتصل بثلاثة جوانب وهي جانب "الفهم"
وجانب "التبليغ" وجانب "العمل" ، بينما تجديد
"النصوص" توقف بعد أن أصبحت الرسالة المحمدية هي آخر الرسائل النبوية ،
فالقرآن يقول " ولكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا" وهذا القول ينطبق على
دعوات الأنبياء السابقين والذين كانوا يبعثون كل فترة فيجددون الدين ونصوصه ،
بينما الأمر مختلف مع الإسلام ، ذلك أن نصوصه "خالدة" والتجديد يكون
بإعادة فهمها لتناسب روح العصر واعادة تبليغها أيضاً واعادة العمل بها ، أو بمعنى
آخر عبر عنه الشيخ عبد الله يوسف "وهو إعادة تأصيل للمسلمات بأفق أوسع، ونظرة
أكثر عمقاً، وأكثر شمولية"
إذاً
مشكلات التجديد تكمن في ثلاثة عوامل رئيسية وهي :
أولاً :
محاربة الاجتهاد والتجيير عليه ووضع الشروط المتكلفة عليه لإفراغه من مضمونه ، مما
يؤدي لإعاقة عملية التجديد الطبيعية ، فالتجديد كما أسلفت هو ثمرة الاجتهاد ونتيجة
حتمية له ، وبالنظر لكمية المحاربة الفكرية والعقدية لكثير من المجددين التاريخيين
كأبو حنيفة وابن حزم وابن رشد والشافعي وابن تيمية أو المعاصرين كمحمد عبده
والأفغاني وحسن البنا وفريد وجدي والقرضاوي وعدنان ابراهيم .
ثانياً :
تحريف "مقصد" الاجتهاد وتشويه رسالته ، وهذا يكمن في الفهم
"الافراطي" لقضية التجديد والفهم "التفريطي" ، أو بين الفهم
"الجزئي" والفهم "المشوه" ، وهذا موجود عند الكثير من
التيارات السلفية والعلمانية .
ثالثاً :
ضعف الخطاب "التجديدي" الإسلامي عموماً ، والذي يتمحور في قوته وعظمته
في مجال "التنظير" دونما العمل الجاد على بعث هذه النظريات لحيز التطبيق
، بينما تلك التي لم يكتمل التصور التجديدي الكامل لديها أو وجد ولكن بشكل ناقص قد
حكمت وفشلت في تجاربها كأفغانستان أو السودان أو ايران أو الصومال أخيراً .
من خلال
ما سبق يتبين لنا تماماً أهمية تجديد الدين لأنها تعبير جليٌ تماماً عن مدى
"حركيته" و "تفاعله" الحضاري والفكري ، ومقدرته على الخروج من
"الانحطاط" و "التخلف" إلى "الابداع" و "التحضر"
، وكذلك المشكلات التي تواجه قضية "التجديد" في واقعنا المعاصر التي
تتنوع بين المحاربة تارة وانحراف الأهداف تارة أخرى وبين تشويه المقاصد تارة ثالثة
، وأنا لا أبالغ إذ قلت أن رسالة الأمم المتلاحقة في التاريخ الإسلامي هي في
"التجديد" أولاً وأخيراً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق