مثلت
قضية التعايش بين طوائف الأمة الإسلامية العقدية وتياراتها الفكرية حلماً جميلاً
بالنسبة للبعض وكابوساً مقلقاً بالنسبة للبعض الآخر ، فهناك ممن يرتزق على فكرة
"التطاحن" المذهبي ولا يدرك المقاصد العليا للدين الإسلامي والتي تعطي "وحدة
المسلمين" شأناً عظيماً جداً ولا يستوعب فقه السياسة الشرعية ولا يعنيه ما
قصد تجلبه فكرة التمزق والتشرذم والتحارب الداخلي من ويلات على كل الصعد
والمستويات .
لكن
الكثيرين ممن يتطلع نحو "التعايش" عجزوا عن وضع تصور منطقي ومتكامل حول
هذه الفكرة الأخلاقية السامية ، وتجاوزوا الواقع الموجود نحو واقع طوباوي غير
موجود ولا يمكن له أن يوجد طالما لم يتم حل مشكلات الواقع ، والمشكلة التي وقع بها
هؤلاء أنهم أحياناً لم يفرقوا بين فكرة "التعايش" وبين فكرة
"التمازج" فخلطوا بينهما وصور لهما أن التعايش يعني التمازج والانصهار
المذهبي وهذا أمر لا يمكن له أن يوجد ، ذلك أن لكل مذهب تكونت تصورات تاريخية
وعقدية متكاملة يصعب تجاوزها ، وتجاوزها يكون بانصهار أحد المذاهب ببعضها البعض
وهذا أمر مستبعد تاريخياً إلا اذا قال عامل الزمن كلمته ، ففي الهند بعد سنوات
الاحتراب الهندوسي الإسلامي تولدت فكرة في أذهان الكثيرين ترى ضرورة الجمع بين
الدينين فتولدت الديانة السيخية والتي أصبحت متمايزة عن الهندوس والمسلمين ودخلت
بدورها في حروب مع المسلمين والهندوس وزادت حالة التمزق التي عانت منها الهند في
فترة من فتراتها ، والمشكلة الثانية كانت هي تجاوز "ظلمات الحاضر" وعدم
الحديث عنها والإشارة اليها خوفاً من الاتهام بالطائفية والمذهبية ، مما أسقط
مكانة هؤلاء من أعين العامة والذين رأو فيهم شخصيات ضعيفة لا تتمتع بالخصوصية
الثقافية التي تفتخر بها أي طائفة .
إن مطلب
التعايش الآن أصبح أمراً مهماً جداً يتطلبه "الواقع" وتفرضه
"التحديات" المعاصرة ، ذلك لأسباب كثيرة نوجزها في الآتي :
1) استحالة
اقصاء أي مذهب للآخر ، وخاصة أن تعداد أي من هذين المذهبين يبلغ عشرات بل ومئات
الملايين منتشرين في كل بقعة من بقاع العالم .
2) تمتع
كلاً من هذين المذهبين بـ"الأصالة التاريخية" أي القدم التاريخي الذي
يوفر "القوة" و "المنهج" و "الأصول" .
3) سيطرة
كل مذهب على دول قوية وذات تأثير اقليمي وذات مواقع جغرافية متميزة على النطاق
الدولي ، فالشيعة تتمركز قوتهم في ايران ذات التاريخ الممتد والمكانة الاقليمية
بينما السنة يمتلكون قوة البأس العربي سواء في مصر أو السعودية أو المغرب وباكستان
وتركيا .
4) العمل
على التخلص من إرث الماضي المؤلم وترقيع شقاق الأمة وتوحيد أجنحتها وذلك لمنع أي
تدخلات خارجية تستغل هذا الوتر الطائفي فتعمل على تمزيق الدول الإسلامية ، فالشيعة
يشكلون أقليات من الممكن أن تعمل على اثارة البلبلة والتمزق في حالة تعرضها للظلم
وكذلك السنة يشكلون أقليات في دول شيعية من الممكن أن يفعلوا الأمر نفسه ،
والمستفيد طبعاً هو المتربص الخارجي أولاً وأخيراً .
لكن
الحقيقة أن الواقع الموجود مظلم تماماً من هذه الناحية وخاصة بعد تطورات العراق
وسوريا والبحرين ولبنان ، فبريق الدم وسطوته قد يذهبان أي صوت للعقل والحكمة ، كما
أن وجود دول قوية تتمتع بالمال والقوة تعمل على تغذية أتون الصراع من شأنه أن يزيد
الأمر صعوبة كما هو حال السعودية وايران مثلاً ، كما أن فكرة التعايش تتطلب جهداً
فكرياً وثقافياً واسعاً للتخلص من "رواسب" الحملات الاعلامية الطائفية
التي حقنت النفوس وكذلك رواسب التاريخ السحيق التي تلقي ظلالها علينا في كل مرة
ورواسب المواقف المخجلة في سوريا والبحرين والعراق ، وهذا يعني أن زمام الأمر في
يد "النخب" الثقافية والتنظيمات الإسلامية ذات التأثير الشعبي وأخيراً
في يد "الشعوب" التي يجب أن تعمل على ازالة أنظمتها المتواطئة التي
تستفيد من حالة الشحن الطائفي لتبرير وجودها ، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن ، وعندما تتقارب الحكومات والأنظمة ستتقارب الشعوب ، حتى على مستوى المذهب
الواحد في حالة تنافر الأنظمة تتنافر الشعوب تلقائياً كما هو الحال مع العراق
والكويت ومصر والجزائر والمغرب والجزائر ، من وجهة نظري فأنا أعول تماماً على
"الثورة السورية" في حالة نجاحها وأن تعمل على اعادة التوازن الطائفي في
لبنان والعراق وفي داخلها أيضاً ، فوجود حالة من التوازن من شأنه أن يعزز فكرة
"التعايش" ذلك أن هذه الفكرة قد لا تستجيب لنبل مقصدها بقدر استجابتها
للواقع كما هو الحال مع دول أوروبا في حروبها الأهلية وبعد أن توصلت لعدم امكانية
سحق أي دولة للآخرى أو السيطرة عليها كان الحل هو في التعايش والتقارب الحقيقي
والتكتل السياسي والاقتصادي والدولي وتناسي كل آلام الماضي وتجاوزها والنظر بعين
الاتزان للمستقبل .
إذاً
ففكرة التعايش في هذا العصر صعبة ربما ولكنها ليست مستحيلة ، وقد يفرض الواقع
أشياءً لا نريدها ولكنها أشياء وقتية يجب أن تزول بزوال مسبباتها ، وهذا التحدي
يفرض مسؤوليات متبادلة ومكملة لبعضها البعض ، مسؤولية "النخب" و
"العلماء" من ناحية ومسؤولية "الشعوب" من ناحية أخرى ومسؤولية
"الأنظمة" من ناحية ثالثة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق