السبت، 22 سبتمبر 2012

"الاختلاف" بين فقه التنظير ومسيرة التطبيق





يقول الله تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" ومن هذا المنطلق يشكل "الخلاف" و "التنوع الفكري" عصباً مهماً في حياة الكل الإنساني ، ومعيناً مهماً على تحقيق الفلاح الحضاري لكل المجتمعات ، فقياس "حيوية" أي مجتمع تتأتى بقياس مدى "التنوع" الفكري والفلسفي والسياسي والاجتماعي فيه ، ومقدرة المجتمع أو الحضارة على ضبط هذا التنوع وتوجيهه في مساره الصحيح حتى يكون عاملاً من عوامل البناء لا عاملاً من عوامل الهدم والتمزق .

وهذا هو بالضبط حال "مجتمع المدينة" الذي أسسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي كان يزخر بـ"التنوع" و "الاختلاف" و "الحرية" المجتمعية التي عبر عنها الخليفة السادس عمر بن عبد العزيز "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رخصة " ، وصحيح أن شكل الحرية وكذلك الاختلاف لم يكن بذلك التعقيد الذي نعيشه الآن ، ولكن هذا يرجع لطبيعة المجتمع أنذاك وبساطته المعيشية والفكرية ، ولكن "أسس" التعدد وكذلك "فقه الاختلاف" من الممكن الاستدلال عليها إما بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية أو بأفعال وتطبيقات الصحابة أو بتراث علماء الأمة الإسلامية .

والمحير في الأمر هو كم "التناقض" بين الفقه النظري وبين المسيرة التطبيقية فيما يتعلق بفقه "الاختلاف" ، فصحيح أن الكل سواء كان هذا الكل "مذهباً" أو "مجتمعاً" أو "طائفة" أو "شخوصاً" يسلم بأهمية "الاختلاف" وبضرورة "تطبيقه" و "احترامه" إلا أن الكثيرين عند التطبيق ينبذون كل المبادئ المتعلقة بهذا الصدد ، والتاريخ الإسلامي ليس استثناءً من هذا المرض ، فمثلاً رغم أن الإمام الشافعي قال مقولته الشهيرة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب" إلا أن أتباعه تشددوا كثيراً في التعصب للمذهب وحاربوا بقية المذاهب بضراوة وخاصة المذهب الحنفي رغم أن الشافعي مدح أبو حنيفة قائلاً "الناس عيال عند أبي حنيفة" ، وكذلك الحال في الخلاف بين الأشاعرة والحنابلة حتى قال أشعري "ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة" والأمر ينسحب على بقية المذاهب والتيارات ، رغم أن رؤوس أو مؤسسي هذه المذاهب كانوا أكثر الناس احتراما لوجهات النظر المختلفة ، فالإمام الشافعي يقول "ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ" وكذلك أحمد بن حنبل كان يقول عن الشافعي "أحب الناس إلي" رغم "الخلاف" الشديد "والتعصب" الممقوت الذي حصل بين أتباع هذه المذاهب الأربعة .

والأمر نفسه حصل مع كبار المجددين وكبار العلماء ليس من قبل أعداء الأمة "الحقيقيين" بل من قبل أبناء الأمة ومذاهبها وعلمائها "المفترضين" فأبو حنيفة أتهم بالإلحاد تارة وبالزندقة تارة أخرى والشافعي أتهم بالتشيع وبالترفض وأحمد بن حنبل اتهم بالتجسيم وقلة العلم ، وكذلك الحال مع ابن حزم والسيوطي وأبو حيان التوحيدي وابن رشد والنسائي والأصفهاني وابن تيمية والذين إما قتلوا أو أحرقت كتبهم أو سجنوا ولوحقت أفكارهم وضيق عليهم كل مضيق .

والأمر لا يتوقف عند حدود هذه المذاهب الأربعة ، بل يتعداها ليصل بقية التيارات الفكرية والعقدية ، بين الأشاعرة والمعتزلة والسلفية وبين الشيعة والسنة وبين الأحزاب السياسية وبين أهل الحديث وأهل الرأي وبين الصوفية والوهابية وهكذا دواليك ، وإن كانت الأمة "تجاوزت" مرحلة التعصب المذهبي بين المذاهب الأربعة لأسباب موضوعية لا داعي لتفصيلها الآن ولكنها لم تتجاوز محطات أخرى مهمة جداً مثل التعصب السني الشيعي والوهابي الصوفي والسلفي والإخواني ، وكل هذه الخلافات التي لم تحترم بعضها وتطرفت في رأيها تسببت في زيادة "التمزق" و "التخلف" الموجود وباعدت بين الأمة ومسيرة "التقدم الحضاري" ، ذلك أن أي أمة في العالم كلما اقتربت من تحقيق فكرة التنوع وأبدعت غي فقه الاختلاف كلما اقتربت من قمة الحضارة أكثر فأكثر والعكس صحيح .

وأخيراً فإن "فقه الاختلاف" مرتبط تماماً بمبادئ وعوامل أخرى ، فعوامل النهضة الفكرية والاجتماعية والدولية مرتبطة ببعضها البعض ، ولا يمكن فصلها عن بعضها ، فالتجديد مثلاً هو ثمرة الاجتهاد ، وفقه الاختلاف هو ثمرة الحرية ، والتقدم التكنلوجي هو ثمرة العلم والهدوء الروحي هو ثمرة التدين ، فالاجتهاد والحرية والتجديد والعلم والدين كلها عوامل مرتبطة ومتظافرة لأبعد حد ، ولا يمكن فصلها عن بعضها ، ذلك أن فصل عامل من هذه العوامل سيتسبب في وجود أمراض خطيرة جداً قد تهدد وجود أي دولة أو جماعة ، فالإختلاف المصحوب بالتسامح يكون عادة "نعمة مشرقة" بينما ذلك الاختلاف المصحوب بـ"التعصب" يكون نقمة مظلمة ، فيجب علينا ان نتعلم كيف "نختلف" مع بعضنا البعض .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق