الثلاثاء، 22 يناير 2013

أبطال ولكن ليسوا مقدسين





من البديهي تماماً في عرف أي ثقافة وطنية أو تاريخية أن يتربع "الثوار" و "المقاومين" و "المجاهدين" على عرش القداسة والمكانة في الوعي الجمعي للمجتمعات العالمية، وعندما نتحدث هنا عن القداسة فلا نقصد القداسة بمعناها العصامي بقدر ما نقصد القداسة بدلالاتها الأخلاقية والخُلقية .

بل وأحياناً يكون الانتقاص من رمزية هؤلاء وتقنينها في لحظات الحرب التحررية –والتي تشتعل فيها كافة ألوان المقاومة- جزء لا يتجزء من الحرب النفسية المعكوسة التي ما تلبث أن تقلل من وهج الثورة ومكانة الثوار، فمكانة الرمز وقدرة هذه المكانة على "حشد" الطاقات ليس لها حدود، بل وترتبط في الوعي الثوري وتلتصق به وتصبح جزءً محرضاً على المزيد من الصمود والمزيد من الثورة .

والقول مثلاً بعاديِّة هؤلاء وعدم قدسية "المقاوم" و "المجاهد" كمقدمة لنسف أحد أركان التوازن النفسي والمعنوي في معركة التحرر الوطني بعيدٌ تماماً عن الصحة، فالعاديِّة والعاديون هم أولئك الذين يعيشون لمجرد العيش في ظروف عادية، بل إن مجرد "العيش" في ظروف وأوضاع شديدة القسوة –كبيئة مجتمعنا الفلسطيني مثلاً- ضربٌ من ضروب الصمود، فكيف الحال بمن يقاوم حتى غريزة الحياة ويقرر دخول معركة غير متكافئة مع جيش متطور ومرعب مثل الجيش الإسرائيلي ؟ 

ولو تحدثنا عن عبد الله البرغوتي مثلاً فنحن لا نتحدث عن عبد الله الذي سافر إلى كوريا، أو ذلك الذي اخترق المواقع الالكترونية المختلفة، أو ذلك الذي نجح في حياته التجارية، أو عبد الله الذي لا يعرف كتابة الشعر، أو صاحب الأسلوب الرديء في الكتابة، بل نتحدث عن عبد الله الذي تمكن من التعامل ومواجهة الكيان الإسرائيلي في ظروف بالغة التعقيد وأن يعالج قضية ندرة الموارد وشح السلاح وأن يخترع أدوات وأساليب جديدة –من العدم- ويدخلها لعالم المقاومة، نتحدث عن عبد الله البرغوتي الذي أنجز أقوى عمليات المقاومة خلال الانتفاضة الفلسطينية وصنع المتفجرات بخبرة ذاتية لا أقل ولا أكثر، ولو سلمنا بعبقرية وإبداع هذا القائد في هذا المضمار فإننا ننزع عنه صفة العادية بشكل تلقائي ونؤهله لمكانة أعلى من مكانة العاديين .

صحيح أن هؤلاء ليسوا ملائكة ولا معصومين، وهم بشر يخطئون ويصيبون وقد يعانون من أمراض المجتمع ويتقمصون عقليته الفكرية والاجتماعية، فعطا الزير وحجازي وجمجوم وعزالدين القسام وحسن سلامة ويحيى عياش وأبو الهنود وجيفارا غزة ورائد الكرمي ومحمود طوالبة ليسوا مقدسين عن النقد هم مثلنا لهم أحلام وطموحات دنيوية لا تتوقف، حتى أن بشرية هؤلاء وجوانبهم التي يتقاطعون بها معنا ومع البقية ستزيد من تأثيرهم ومكانتهم، ولكن أيضاً لا يجب أن نتغاضى عن رمزية هؤلاء ومضامين هذه الأسماء في مرحلة المقاومة، فرمزية يحيى عياش –الشاب المهندس والذي كان يريد السفر للخارج لإكمال تعليمه- كانت دافعاً أسمى لعبد الله البرغوتي مثلاً لاقتحام عالم المقاومة وتصنيع المتفجرات، بل إن يحيى عياش –الشاب البسيط والهادئ- تمكن من تغيير معادلات كثيرة وحسابات معقدة مع الكيان الإسرائيلي، وأن يصل تأثيره للحد الذي يصبح فيه ظاهرة تطلق على كل مهندسي المتفجرات –العياشيين- كما يسميهم الجيش الإسرائيلي .

كما أن الدلالات والانجازات التي يضيفها هؤلاء لا يتوقف تأثيرها عند حدود التوازن المعنوي مع الدولة الإسرائيلية، بل يمكن توظيفه لمحاربة منهج "التفاوض" و "الاستسلام" والذي أصبح له رموزه وأيقوناته هو الآخر، فأن يكون "أمير الظل" مثلاً مهندساً للوعي الجمعي واضافة نوعية للفكر الثوري أفضل من أن يحل محله "الحياة مفاوضات" لصائب عريقات، أن يصبح عبد الله البرغوتي بطلاً أسطورياً مقدم على أن يكون أمثال الطيراوي وعريقات وشعت ومحمود عباس رموزاً وطنية تؤثر على الوعي الثوري وتحرفه عن مساره .

الجمعة، 4 يناير 2013

يحيى عياش كأسطورة وكمهندسٍ للوعي .





لم يكن منظر الاستشهاديين وهم يفجرون أجسادهم في شوارع وباصات ومحلات الدولة الإسرائيلية شيئاً عادياً أو طارئاً على وعي الكيان الإسرائيلي، لم يكن هذا المجتمع المتجبر والمغرور بقوة جيشه وسطوة دولته يصدق أن هناك من لديه المقدرة المعنوية والعقلية لضرب هذا المجتمع بكل قوة وشراسة وأن يضعضع أمنه ويخلخل اقتصاده في آن معاً .

لم يتوقف تأثير يحيى عياش على وعي المجتمع والدولة الإسرائيلية بل تخطاه ليصل لأعماق أعماق الوعي الفلسطيني، فعندما تتحدث عن المجتمع الإسرائيلي فأنت تتحدث عن رجل استطاع أن يُدخله لحلبة الصراع وأن يُدفعه ثمن مجازر حكوماته المتعاقبة بعد أن كان بعيداً كل البعد عن هذا الأمر فأصبح المواطن الإسرائيلي يدرك تماماً أنه سيدفع ثمن حماقات قادته، ولو تحدثنا عن الدولة الإسرائيلية فنحن نتحدث عن شخص استطاع قلب نظريات المؤسسة الأمنية والعسكرية رأساً على عقب، فبعدما كانت ترتكز النظرية العسكرية على ضرورة إبقاء المعركة والمواجهة في ساحة العدو أصبحت المواجهة في قلب المجتمع الإسرائيلي دفعة واحدة وبدون مقدمات، فضلاً عن ضرب أهم أسس الدولة الإسرائيلية "الأمن/الاقتصاد" .

أما فيما يتعلق بحال المجتمع الفلسطيني فزمنية ظهور المهندس والتي تعتبر من أكثر أوقات القضية الفلسطينية حرجاً بسبب خروج منظمة التحرير من آخر معاقلها من لبنان وضعف حالة المقاومة العسكرية في الداخل، حيث كان أقصى ما يمكن أن تفعله هي عمليات صغيرة من وقت لآخر كل ذلك تمم بمجزرة الحرم الإبراهيمي والتي أشعرت الفلسطيني وقتها بالضعف والانكسار وقلة ذات اليد، جاء المهندس وبدون سابق إنذار ليرد الصاع بالصاع ويغير من توازن الرعب والدم والعدد فكان عدد قتلى الرد على المجزرة يوازي تقريباً عدد شهداء المجزرة نفسها، فضلاً عن العقلية الأمنية جديدة الطراز التي دوخت أجهزة الأمن الإسرائيلي لسنوات خلق شعوراً بالإعجاب بشخصية هذا الرجل، هذا الإعجاب الذي سيتخطى الشعب الفلسطيني ويصل لكبار عسكريي وسياسيي الدولة الإسرائيلية مثل شمعون رومح واسحاق رابين .

لقد كانت رسائل المهندس تصل لكل مكان وتطير في كل الإتجاهات، تلك الرسائل التي عبرت عن كون الفلسطيني ليس رقماً سهلاً وأن بمقدوره أن يضرب أساس النظريات الأمنية والعسكرية مهما بلغت سطوتها، وأن لديه من القدرات العقلية والنفسية والمعنوية ما يؤهله لمواجهة أقوى دول المنطقة وأكثرها تجبراً وايجاعها وإيلامها، كانت أصوات الانفجارات في كل مدن إسرائيل إيذاناً بميلاد مرحلة كفاحية جديدة وأبطالٍ جدد اصطلح لاحقاً على تسميتهم بالاستشهاديين، وكانت شجاعة هؤلاء أيضاً تعيد ترميم الوعي الفلسطيني الذي انتكس بعد نكسات المنظمة العسكرية والسياسية .

رحل المهندس منذ أكثر من عشرة سنوات ولكن طيفه ما زال متعلقاً في كل من عاصره بعد أن ارتبطت ذكراه بالشجاعة والإرادة والتصميم والصلابة، رحل المهندس بعدما حاول تيار "غصن الزيتون" أن يفرض نظريته الانهزامية، فكان "الحزام الناسف" مبدداً لهذا التيار وأوهامه، عياش يكفيه فخراً أنه بدد أيقونة الحمامة وأحل محلها أيقونة الحزام بجانب البندقية .