جلال الأرض وروعة التضحية وألم الذكرى وأمل المستقبل ودماءٌ على الحائط
، مسافة قصيرة بين الآلام والآمال وترابط غير مفهوم بين الماضي الذي مر سريعاً والحاضر
الذي يسير ببطء والمستقبل الذي قد يأتي وقد لا يأتي ، ها أنا أتحدث عن فلسطين وعن غزة
وعن القدس وعن الجليل وعن الخليل ، أتحدث كثيراً كي لا ينسى أحد ، وأبكي كثيراً كي
لا يفرح أحد ، وأطلق الرصاص كثيراً كي لا ينام أحد ، وأحدث نفسي أن الجميع يجب أن يدفع
الثمن بأشكال مختلفة ، أشكال تتوزع بين الفخر وبين الندم وبين الفاجعة .
في هذه البلاد تختلط الأشياء والقصص والمشاعر ، على أول الشارع مقاتل
يملأ الدنيا ضجيجاً ، وعلى الرصيف فتاة تكحلت الأسى ، وفي البيت أم ثكلى بأولادها ،
وفي الطريق إلى المقبرة جنازة شهيد لم يبلغ العامين ، وعلى شاشات الأخبار وصية استشهادي
زلزل كيان الاحتلال ، ترفع عينك للسماء على أمل رؤية زرقتها فلا ترى إلا طائرات الموت
في كل مكان ، فتخفض عينيك قليلاً فتجد الحدود وأسلاكها تحيط بك من كل جانب ، تنام على
وقع هدير الاجتياح ثم تستيقظ على تكبيرات الجنازات .
معركة إذاً هي ، معركة على "البسمة" وعلى "البقاء"
وعلى "الوفاء" وعلى "الجذور" وعلى "الزيت" وعلى
"الزيتون" ، معركة على الذكرى الطيبة ، على الصمود والمقاومة ، يريدون أن
يسرقوا منك كل شيء ، وأن يجردوك من كل شيء ، وأن يمنعوا عنك أي شيء وكل شيء ، وأنت
ترفض كل هذا وتصرخ أنك ترفض كل هذا وتقاتل لأنك ترفض كل هذا ، وتذهل الجميع لأنك ترفض
كل هذا ، فيسألوك لماذا ترفض وتعيش على الرفض فتقول لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة
!
سالم جبران يكتب على الحائط "كما تحب الأم طفلها المشوه ، أحبها
، حبيبتي بلادي" ، ونحن نحبها بلادنا ، نحبها كما هي ، وإن كانت الآن مقطعة الأوصال
نحبها ، وإن كانت محاصرة نحبها ، وإن كان القتل عادة يومية بداخلها نحبها ، والموت
على طرقاتها ينتظر نحبها ، والبؤس على شفاهها نحبها ، فمن ينزع الحب من قلب المحبين
من ؟ ومن يجرد الشوق من خلجات النفس من ؟ ومن يستطيع قهر الفطرة ومعاداة نواميس الطبيعة
من؟
هنا تسكن الأساطير ، وتنام مع المرابطين يومياً ، وعلى الحائط يكتب شاب
ما "نحن في الحرب أسود لا نهاب" ، شعارات ربما تبدوا أكبر من حجمنا لكن مع
التجربة ثبت أننا أكبر من التجربة نفسها ، فتتجدد الشعارات مع تجدد التجارب وتكبر كلما
كبرنا ، يصرخ في وجه أعدائنا درويش ويقول "أيها المارون بين الكلمات العابرة"
، كثيراً ما يصبح القلم سيفاً مشرعاً يقطع زيف أسطورة الدولة البلهاء ويحطم هيبتها
، يتعانق السيف والقلم ليبث في الروح الحياة ، ويعانق الدم الأرض فتزهر أزهار الياسمين
، تقف على أرض الشهداء مذهولاً لتتذوق طعم الأرض وتشتم مسكها وريحانها ، سيعتقدون بأنك
خارج الزمن وخارج التاريخ وخارج الخارج ، هؤلاء الذين قال عنهم أمل دنقل "لم يتذوقو
طعم الثريد" لن يستوعبوا أن أرضك أكبر من أن يستعمرها قزم وأنك أسمى من أن ترضخ
لصعلوك ، إنك أنت أسمى من الموت وأقوى من فولاذ الدبابات وأهيب من جيشهم الذي لا يقهر
، إنك أنت الذي وصفك تميم بأن القدس لا ترى إلا أنت ، وأنت أنت الذي لا ترى إلا هي
فلسطين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق