الأربعاء، 25 يوليو 2012

أبو ثائر وتقلبات الزمن العجيب




يقلب أبو ثائر صفحات ذاكرته صفحة صفحة بعدما  أشعل سيجارته متأملاً كيف تقلب الزمن وتغير الحال وتبدلت الأنفاس من الضد إلى الضد ، ليسوح في عالم من المتناقضات والأضداد التي يعجز عن تشكيلها وفهم معالمها عقله البسيط ، يقف مذهولاً في تفسيره لثنائية "المجد" و "الانحدار" و "الوطنية" و "الخيانة" ولا يدري كيف تشابكت كل هذه الخيوط ببعضها البعض وتداخلت أطرافها حتى أصبح لا يفرق جيداً بين القتال لأجل الوطن والقتال لقتل الوطن ، وبين حراسة الحدود من الأعداء وحراسة الحدود لأجل الأعداء ، ويحاول مجهداً أن يفسر كل هذه الثنائيات ولكنه كـ"العادة" يفشل لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن يفهم أن بندقيته تغيرت وجهتها ورضيت بالقليل وحتى هذا القليل لم يرضى بها .

لقد تبدلت حياته كثيراً بعد توقيع اتفاقيات السلام ، حتى فكر يوماً أن يغير اسمه لأبو سلام ، فالاسم المرتبط بالحوادث يتغير معها صعوداً وهبوطاً ، فعندما كانت الثورة هي الحل الأول والأخير كان اسمه أبا ثائر ، وبعدما تغير الأمر وأصبحت المفاوضات هي الحل الأول والسلام هو الهدف الأخير أراد أن يكني نفسه أبا سلام ولكن عندما لم تعجبه "الرنة" الإيقاعية للكنية الجديدة تساءل في نفسه كيف لم يوافق على الكنية الجديدة بينما وافق حقيقة على مدلول الكنية ، وكيف رفض تغيير اسمه ولكن وافق على تغيير مبدأه وثوابته ؟

حتى بندقيته لم تخلوا من التناقضات المتجددة ، تلك التناقضات التي خجل من حقيقتها كثيراً ، فبندقيته كانت محل تقدير عالمي عندما زغردت في بيروت وفي الأردن في عيلبون وميونخ وكان يقدمها على كل شيء فيصرخ في وجه الجميع : لا صوت يعلو فوق صوت البندقية ، فكانت البندقية فوق كل المفاوضات وفوق كل الحلول وفوق كل شيء ، لكنها هي نفسها تلك البندقية التي أصبحت بعد "أسلو" وسيلة مفضلة لقمع الشعب وتدجينه وتهجينه ، وأصبحت توجه لصدور رفقاء الدرب والسلاح ، وأصبحت "مسبة" تجلب لأبو ثائر كل أنواع التخوين والتكفير الوطني ، وصدأت في بيت أبو ثائر ولا يعاد تنظيفها إلا أثناء خروج مسيرة لمواساة استشهادي أو لقمع تجمع لرشق الدبابات بالحجارة أو عند رؤية مجموعة من المقاومين يحاولون مهاجمة السلك الحدودي واجتيازه .

لكن أكثر اللحظات إيلاماً في تاريخ أبو ثائر ، هي نظرات "الحب" و "الإعجاب" و "الافتخار" الوطني التي كانت تنطلق من عيون الناس أطفالاً ورجالاً ونساءً وشيوخاً إلى بنادق الثائرين والمجاهدين فتغمر الثوار بأحاسيس الوطن الدافئة بينما يرمقون بندقية أبو ثائر بنظرات "الاستحقار" و " التقزز" و "الاستهجان" وكأنها بندقية لقيطة ممسوخة بيد شخص ممسوخ فتستحيل حياته في تلك اللحظات العابرة جحيماً لا يطاق ، وقد كان لـفرط ذكائه يعرف الجواب ، يعرف لماذا تقبل بندقية رائد الكرمي ومحمد فرحات وأبو الهنود ومحمود طوالبة وتنثر على أجسادهم الورود والرياحين ، بينما يبصق على بندقيته ألف مرة كل يوم ، هو يدرك جيداً الفرق بين بندقية الثائر وبين بندقية المرتزق ، ولكن لفرط غبائه أيضاً أنه كان مصراً على المضي قدماً في طريقه المجهول النهاية .

وها هو أبو ثائر يكمل حياته متنقلاً بين محطات الحياة المختلفة ، حتى روتينه "غير الوطني" أصبح مملاً أيضاً ، فهو يعتقد بأن السبب في توقيع اتفاقيات السلام مع العدو الإسرائيلي كانت بسبب الملل من الثورة وروتينها القاتل ، ويتسائل لماذا مللنا من روتين الثورة ولم نمل من روتين "المفاوضات" و "السلام المزعوم" ؟ وهكذا تمضي حياة أبو ثائر بعيداً ، بين الخروج لإعتقال أحد المقاومين أو في دروية حراسة لإحدى المستوطنات أو في نجدة عاجلة لأحد الجنود التائهين في شوارع الضفة أو لقمع إحدى المسيرات الوطنية ، تمضي حياة أبو ثائر متكدرة تماماً ويبكي أحياناً عندما يختلي بنفسه ، هو يتمنى أن يكون مقاوماً ، فرغم "حقاراته" المتكررة وعدائه لكل ما هو مقاوم ومحاربته لكل مشاريع المقاومة والكفاح المسلح ، يتمنى أن يكون مقاوماً ، ان يكون مثل طوالبة أو أبو سرية أو أبو الهنود ، حينها يدرك الفرق تماماً بين المقاوم وغيره ، يدرك مدى شعبية المقاوم أيٍ كان مذهبه وتقزز الناس من أي "مرتزق" أيٍ كان مذهبه أيضاً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق