لا تشعر بقيمة الأشياء إلا بعد فقدها ، وبعد أن تصبح نسياً منسيا ، بل
لا يخطر على بالك أبداً أن هذه التفاصيل الصغيرة المنتشرة في حياتك سيكون لها ألف قيمة
بعد فقدها ، عندما عبر درويش عن حنينه لأمه تذكر تلك الأشياء جيداً فقال "أحن
إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي" وهي تلك التفاصيل الصغيرة التي سيجبر على تذكرها
أي فاقد لعزيز أو رفيق أو مكروب ، لما قابلت أحد الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي
أخبرني كيف أنه اشتاق لكأس الشاي وللمشي في الشارع وللنظر في وجه أمه وللجلوس أمام
عتبة البيت وللصلاة في المسجد والضحك مع الأصدقاء وللركوب في السيارة ولمتابعة الأخبار
، هذه التفاصيل الصغيرة والمملة والروتينية أحياناً تنقلب إلى إطار قلبي يحيط بالذكريات
ويحرسها جيداً ويدلل عليها مع مرور الزمن ، إنك لا يمكن أن تنساها لأنك تفعلها كل يوم
، فتصبح جزءً من حياتك لا تشعر به دائماً لكنه وهو "متخفٍ" يعطي لحياتك مذاقاً
خاصاً يجعلها تختلف عن "حيوات" الناس الآخرين ، فلكل حياة ولكل شخص تفاصيله
الصغيرة التي لا تهمه أحياناً وتهمه أحياناً أخرى وتؤثر فيه و "تصيغ" شخصيته
مع مرور الزمن .
هي نفسها أيضاً الكثير من المشاعر العابرة من ضحكة وبسمة ودمعة ورفقة
وحب في لحظات ما ، فتتخطى عتبة النسيان لتصل لأعماق الذاكرة ، حيث تسكن الكثير من الأقاصيص
ولحظات الفرح ولحظات الحزن ومواقف الحياة المختلفة والمؤثرة ، هي التي لا تعطيها اعتباراً
دائماً لكنها تصير في لحظة فقدٍ إلى مشاعر دائمة تفرحك أحياناً وتبكيك أحياناً أخرى
، ولما كنت أنا صديقاً مقرباً لأحد الشهداء وأجالسه كثيراً ، لم تكن الضحكات والسهرات
وباقي محطات الرفقة المتكررة بيني وبينه تؤثر على حياتي كما هو الحال بعد استشهاده
، فتصبح كل تلك الذكريات حقيقة ومجازاً محطات فارقة في حياتك ، فتبحث فيها عن تفاصيل
التفاصيل ، وتبذل مجهوداً نفسياً وعقلياً لتستذكر كل لحظة عشتها معه ، فهذه الذكريات
وبعض الصور المتفرقة ستصبح توثيقاً قلبياً ومشاعرياً لمحطة كاملة من حياتك ، محطة لن
تنساها أبداً وستبقى محفورة في أعماق أعماقك إلى الأبد ، ومهما تخطيت السنين والأعمار
فستبقى تستجمعها لأن الإنسان تاريخ وماضٍ .
تظهر كل هذه التفاصيل جلياً أمامك ، في تلك اللحظة التي لم تعد للحياة
فيه أي معنى ، وأحياناً تستشعر بأن سنوات الماضي أكثر بكثير من سنوات المستقبل ، فتصبح
سلواك في أشياء كثيرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق