**
كنا أطفالاً صغاراً بعد .. وأجسامنا غضة طرية ووجوهنا تنضح بالبراءة وكانت أحلامنا
تعانق كبد السماء بأمل وآمال .. نرقب من بعيد نصراً منشودا نكون فيه قادة وجنودا
.. كان الحجر سلاحنا الفتاك في وجه الآلة المتغطرسة .. ورغم أسراب الموت وتناثر الدماء
هنا وهناك إلا أن الأمل والوطن والثورة والانتفاضة والجنة والقدس والحب والنصر يدفعنا
رغماً عنا لنبذل المزيد .
** كبرنا وكبرت آمالنا وأشتد عود أحلامنا وانطلقت الروح المتمردة من عقالها
رافضة كل حل وطرح ومسار وطريق معبد بالمذلة والرضوخ .. طرحنا الحجارة جانباً وأمسكنا
السلاح واندفعنا نحو طريق مجهول البداية والنهاية .. كانت فلسطين اسماً وروحاً ونثراً
وشعراً تسكن في خلجات أنفسنا وجنبات أرواحنا نعانقها في الصباح وفي المساء .
** الموت كان أمنية وكان للجراح أغنية .. تساقط الأصدقاء والأخوة والأحبة
في كل وقت وفي كل حين .. فالدماء كانت شعلة وقادة تنير الطريق فدم الشهيد نور ونار
عزة وفخار .. وكتبت على جدار منزلي " اطلبوا الموت ستوهب لكم الحياة "
.. هيا يا أحمد لم يبقى إلا أنا وأنت يا صديقي .. دع عنك الأماني والعتاب .. هذا سبيلي
يا أخي إن صدقت محبتي فاحمل سلاحي .
** يوم زفافه ذهبت إليه وقبلته وابتسمت في وجهه .. ومازحته قائلاً أخذتك
الحياة بعيداً يا أحمد .. ربما نسيت الشهداء ونسيت الطريق الذي عاهدنا بعضنا ألا نتركه
إلا وأجسادنا مدفونة تحت التراب .. ارتسمت على وجهه كثير من الحكايات وكان باستطاعتي
أن استنطقها وأستمع إليها .. كانت لحظات سعيدة ممزوجة بأحزان متوارية خجلاً من روعة
الموقف .. ثم عدت إلى منزلي .
** بعد شهر من الزواج الفردوسي كانت الليلة هادئة والقمر في تمامه ..
كان كل شيء هادئاً في غزة .. الحدود والمدن والقرى والحارات والأزقة هادئة .. والعريس
الجديد ترك خدره وتوجه للحدود مرابطاً متوشحاً سلاحه الدافئ .. سكن الليل وسكن كل شيء
.. ولكن خفافيش الظلام عكرت صفو الهدوء الغزي متسللة عبر الحدود لتزرع الموت في ربوع
القطاع .. كانت قوات النخبة الإجرامية تتجه نحو " صيد ثمين " كما أوهمتها
قياداتها المجرمة .. كان أحمد مستعداً لذلك اليوم المشهود .. يوم من أيام الله .. يوم
يعز الله فيه من يشاء ويذل من يشاء .. تسطع فيه الكرامة وتسطر البطولة بدماء طاهرة
وأنفس زكية .. لحظات مرت بصمت وإذا بطلقات العز الأحمدي تتناثر في كل مكان .. تستقر
في الجماجم والأجساد .. تخطف أرواحهم القذرة وتحيل " النخبة " لجثث هامدة
ملقاة على حدود القطاع .. هيا يا جبناء هيا يا أنذال .. اليوم يوم الملحمة يوم نمحو
المشئمة .. يوم نسفك الدما العرض يشكوا المظلمة .. تعالت صرخات " النخبة
" لتشق طريقها وسط الظلام ولكن هيهات .. فطائر الموت قد حمحم .. فقولو لأعادينا
انتظروا منا ويلات لا تذرُ .
** تمدد الجسد الطاهر مجندلاً بالدماء تحت النجوم وعانقت روحه الطاهرة
أرواح الشهداء وحلقت في سماء غزة .. هذا حنظلة السماء ..بدر منير بات يأتفلُ .. والنجم
من عبراته خجلُ .. سكن الجسد وتناثرت الدماء .. وزف العريس لمنصة الشهداء .. هذا يا
أمي عريس السماء الخالد .. وجهه الوضاء ما زال يرينا .. يبعث الآمال فينا ويعلمنا الثبات
.. دماء الشهداء مسك الأرض وعنبر الحرية .. لا تبكي يا أماه .. أحمد بطل .. شهيد
.. عريس .. فلسطيني .. فأطلقي للدمع مساره وألحقي المسار بزغرودة الشهادة والشهداء
.
** سبعة من جيف " النخبة " وضابطها رجعا بالتوابيت بأجساد
" مخترقة " فالرصاص الأحمدي حمل معه رسائل الشجاعة والعزة والأنفة .. وقد
علمت " النخبة " أن في غزة رجال شداد أولي بأس شديد يجوسون في الحدود والثغور
.. رجع الجنود بأجنحة كسيرة ورؤوس منكسة يجرون أذيال الخيبة .
** كان يوماً حزيناً وكئيباً .. سال الدمع وخفق القلب وناحت النفس ..
اليوم يرحل العريس الوسيم .. هي طريق معبدة بالدماء .. ولكن فقد الأحبة يخلع القلب
ويزلزل أركان الفؤاد .. هؤلاء " الأطهار " هم النور والأمل .. هم البسمة
والضياء .. هم الضحكة المرسومة على كل الشفاه .. هم القرآن الناطق .. هم الرايات والآيات
والتراتيل الخاشعة .. يرحلون ولا يكلفون أنفسهم عناء الوداع .. هو الرحيل الأخير
.. وما زالت كلماته مرسومة على جدار المنزل " نحن في الحرب أسود لا نهاب
" .
وإلى اللقاء يا صديقي .. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق