**
إن الفرد الإنسان هو أساس كل مجتمع إنساني , ونجاح أي مجتمع في أداء رسالته الأخلاقية
والإنسانية مرتبط تماماً بنجاح هذا المجتمع ببناء الأفراد بناءً سليماً متماسكاً ,
ولذلك جائت معظم الآيات القرآنية الأخلاقية موجهة لعموم الأفراد وتحض على الصفات الخلقية
الفردية مثل " الصدق والإخلاص والأمانة " .
** والنجاح في بناء الفرد المكون للمجتمع سيؤدي بطبيعة الحال لبناء جبهة
داخلية قوية ومتماسكة ومتراصة , وأي دولة متطورة في العالم قبل كل شيء تعمل على بناء
الجبهة الداخلية وتوازنها وتحافظ عليها , لأن أي خلل فيها هو خلل في بناء الدولة وبناء
الحضارة وبناء المجتمع , ولذلك في حالة القدرة على بناء هذه الجبهة من خلال توفير كل
متطلبات العيش الكريم وإزالة كل مسببات الظلم والإستبداد والطغيان ورفع مستوى المعيشة
واتاحة الحريات الفردية والجماعية من شأنه أن يوحد طاقات المجتمع نحو الهدف الأساسي
والرئيسي الذي تضعه أي خطة أو أي دولة لمواجهة أي ظرف وأي مستجد قد يكون هذا الهدف
هو تحرير بلاد أو بناء حضارة أو نهضة علمية وثقافية واسعة .
** وبطبيعة الحال فإن أول عوامل هدم الجبهة الداخلية وتقويض أركانها هو
الاستبداد والطغيان وإشاعة المظالم وهتك الحريات وطمس معالم الأخلاق , لأن هذا الوضع
من شأنه أن يقسم المجتمعات لفرق متناحرة وأن يحرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح , فبدل
أن تتوجه الطاقات الفردية والجماعية نحو تحقيق النصر وطرد الغزاة وتحرير الأرض والعرض
وبناء النهضة ستتجه لإزالة طواغيتها أولاً وبناء نفسها ثانياً وتأسيس النهضة الحضارية
والعلمية والمعيشية ثالثاً ليصبح هدف " تحرير الأرض " مطلباً أخيراً يلزمه
قبل ذلك مراحل من الإعداد والتأسيس النفسي والبنيوي والحضاري .
** ولذلك تذرع الطغاة بـ " المقاومة " حيناً وبـ" الممانعة
" حيناً آخراً , وكذلك تذرع المستبدين بـ " الجبهة الداخلية " مرة وبـ
" التدخل الخارجي " مرات ومرات , ذريعة فارغة المضمون , لأن الظلم والاستبداد
أول عامل من عوامل الهزيمة " فالعدل أساس الملك والنصر معاً " , ووجود الطغاة
في مرابع الحكم هو أحد أهم الأسباب المؤدية للتدخل الخارجي وكما قال شيخ الإسلام بن
تيمية " الطغاة جلابون للغزاة " , ولو لاحظنا أن كل تدخل خارجي في الوطن
العربي والإسلامي مثلاً كان سببه طغاة متعددون " صدام والقذافي وحافظ الأسد ومن
بعده بشار " , كما أن بناء القوة العسكرية لمواجهة العدو الخارجي " كنوع
من تخدير الشعوب " لن تمنع من تفكك الدول وتساقطها وتهاويها مهما بلغت قوة هذه
الدولة طالما بقيت الجبهة الداخلية مترهلة ومفككة وطالما بقي الظلم متفشياً في مفاصل
وربوع هذه الدولة والتاريخ حافل بعبر ونماذج كثيرة لدول لم تمنعها قوتها من السقوط
" الإتحاد السوفيتي " مثلاً وكذلك " ألمانيا الاتحادية " في عصر
هتلر , و العراق كذلك في عهد صدام حسين .
** ولو رجعنا لتاريخنا الإسلامي لاستخلاص الدروس والعبر الانسانية فسنجد
أن كل هزائم الأمة وقف خلفها طغاة أو حكام جائرين أو ملوك فاسدين وفي أوقات كانت الجبهة
الداخلية محطمة بالصراعات الداخلية والمذهبية , هذا الأمر تكرر في عهد الغزو المغولي
والصليبي معاً , بينما كل الملوك والخلفاء المسلمين الذي صنعوا أكبر انتصارات الدولة
الإسلامية وحرروها من الإحتلال المغولي والصليبي كانوا ملوكاً عادلين ونماذج فريدة
من الإصلاح السياسي والفكري " قطز وبيبرس ومودود وعماد الدين ونور الدين زنكي
" نموذجاً , ولذلك الطغاة هم أكبر عوامل الهزيمة , والظلم أشد الأمراض فتكاً في
جسد الأمم السابقة والحالية واللاحقة .
** ولو أخذناً بتجربة نور الدين الشهيد نموذجاً في البناء والإعداد ومن
ثم المقاومة للوجود الصليبي ونهاية بتوحيد شطري الأمة " الشام ومصر " وليسلم
صلاح الدين دولة قوية ثابتة الأركان ومتماسكة الجبهة لوجدنا أن أول الأعمال التي قام
بها هذا الملك العادل هو بناء الفرد والجبهة الداخلية عن طريق رفع المكوس وتخفيض الضرائب
للحد الأدنى ورفع الظلم عن الناس ووقف حالات الاعتداء من قبل رجالات السلطة على الرعية
وممتلكاتها فقام لأول مرة في التاريخ الإسلامي ببناء " دار العدل " والمعنية
بالمظالم التي يرتكبها رجالات السلطة والتي كان يجلس بها الخليفة مرتين أسبوعياً ,
ومن مقولاته الشهيرة " والله إني أفكر في وال وليته أمور المسلمين فلم يعدل فيهم
أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني وأخاف المطالبة بذلك (أمام الله). فالله عليكم،
وإلا فخبزي عليكم حرام، ولا تريان قصة مظلوم لا ترفع إلى، أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني
بها وارفعاها إلي " , بموازاة ذلك قام ببناء المدارس الدينية والأخلاقية , فبلغ
عدد المدارس النظامية ما يفوق الخمسين مدرسة في حلب وحدها موزعة على المذاهب الأربعة
, ونشر الأمن والأمان في المدن والقرى والسواحل , فتماسكت الجبهة الداخلية تماسكاً
شديداً وقوياً ليتفرغ بعد ذلك لتوحيد المزيد من المدن الإسلامية , ثم تبدأ مرحلة المقاومة
العسكرية للوجود الصليبي , ليحقق نور الدين إنجازات عسكرية وتحريرية واسعة جداً فحرر
الموصل وضمها وفتح الرها وضم الاسكندرية والقاهرة وبانياس ولتنتهي حياته وقد تطهرت
أرض الشام والعراق ومصر من دنس الصليبيين , وليتوج صلاح الدين من بعده مسيرة الإصلاحات
الزنكية بتحرير بيت المقدس وفلسطين في معركة حطين المقدسة .
** وهكذا فإن النصر له أسباب ومسببات , وحقائق ودوافع , أولها بناء المجتمع
المتماسك ونشر العدل ورفع الطغيان , كما أن الهزيمة لها أسباب ومسببات تتمثل في عكس
أسباب النصر ومسبباته , فلا يمكن أن نتوقع نصراً يحققه طاغية أو نهضة يشرف عليها مستبد
ظالم , وإلا فها هو التاريخ العربي الحديث أمامنا ولنعدد عدد " الإنتصارات
" التي حققها الطغاة المتوالين علينا ولنقارنها بعدد الهزائم والنكسات والوقائع
المريرة في صفحات الأمة , كما أن النصر الذي يحققه لنا طاغية أو مجرم أو ديكتاتور لا
نريده ولا نبحث عنه , لأن النصر الأول يكون بتحرير الفرد وتحرير النفس قبل تحرير الأرض
وتحرير العرض .
** ومن خلال ما سبق علينا دراسة وتفهم الثورات العربية , بعيداً عن الشعارات
فارغة المضمون والخطابات الديماغوجية والدوغمائية التي تصدعنا بها وسائل الإعلام النظامية
وأصوات المنهزمين نفسياً وفكرياً , فعندما تتحرك الشعوب العربية " وفي طليعتها
الشعب السوري " فهي قصداً لم تثور من أجل طلب التدخل الخارجي أو من أجل استعمار
بلادها أو خدمة لأي مخطط خارجي أو غربي أو شرقي , بل هي تتحرك وفقاً لنواميس الكون
وأسس الفطرة وحركات التاريخ المنتظمة في الثورة على الطغيان والاستبداد وتحرير الإنسان
وبناء الفرد وتأسيس النهضة والحضارة , ولذلك يتوجب أولاً دعم هذه الثورات بل والمشاركة
فعالة بها بكل قوة وعنفوان فهي الخطوة الأولى واللبنة الأساسية في صناعة النهضة واستجلاب
النصر وانتزاع الحقوق من الأعداء قسراً وأمراً وجبرا , وأما الطغاة مهما تذرعوا بـ
" المقاومة " وبـ " الممانعة " , إلا أن العبرة بالأسماء لا بالمسميات
, والحقيقة أن وجود هؤلاء في سدة الحكم هو " المؤامرة " بحد ذاتها .
نعم إن " صناعة الإنسان مقدمة على صناعة النصر "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق