كمية العارِ
الذي أورثكَ إياه قومك شديدُ الوطأة على النفس، تستشعره لحظياً وفي كل حين، لابد
أن ينغص عليك نهارك وليلك وأحلامك وأفكارك، يلاحقك في الأزقة والشوارع، يلاحق
أنفاسك التي تدخل وتخرُج، يتسارع مع دقات قلبك المتعبة، يتربع على عرش الذاكرة
رافضاً التنازل عن كرسيه المرموق .
ماذا حصل
يا صديقي حتى نرث كل هذا العار ؟ ما ذنبنا إن كان أجدادنا وحكامنا مغفلين لهذا
الحد، كيف تلاقحت الغفلة والجبن مع خيانة الأنظمة، وتناكحوا ليلاً ونهاراً فأنجبوا
كل هذا العار الممتد على طول الخارطة الزمانية والمكانية .
أدري
بأنك فقدرت القدرة على ربط الأحداث ووصلها مع الحوادث ببعضها البعض، لقد أصبحت
هامداً ضعيفاً ذليلاً لا تقدر على الحراك، ورضيت بلفظة المستضعف لتجلب لنفسك
الشفقة ظناً منك بأنها قد تجيء لك بالمنفعة، لكنك كنت مخطئاً تماماً، فالمشفقون يا
رفيقي ينظرون إليك من عِل ويكتفون بإهدائك بعض المشاعر لا أكثر، لكنك لم تستوعب
ذلك أبداً لأن عقلك أعلن اضرابه عن التفكر والتدبر .
يا صديقي
كل هذا العار الذي بدأت تتلمس جوانبه وترفض طغيانه عليك سببه أنك لم تحب القنبلة
كما يجب، لم تتغزل بها كما تغزلت بمحبوبتك، ألقيت مهمة حمل السلاح على غيرك، لظنك
المبكي بأن وظيفتك ليست حمل السلاح، حسناً حسناً، ربما استطعت أن تقنع نفسك بعض
الوقت بهذا، لكن هل كان ظنك كان صحيحاً ؟ ستسألني فسأجيبك بأنه ليس صحيحاً فحسب بل
هو خائبُ مثلك، فتقاطعني وما الدليل فأصعقك متسائلاً وهل كان ظنك هذا يحميك من
الشعور بالعار ؟ العار الذي أرقك كثيراً وطويلاً ؟
عليك أن
تدرك يا صديقي العزيز بأن الشعور بالعار يلاحق المهزومين والجبناء، وأما الخونة
فهم العار نفسه، العار الذي يقتل بعضه، وأما الذين رفضوا الفكرة وأقصد فكرة الرضى
بالعار فهناك على الجبهات، أو ربما على الأكتاف، أولئك داسوا عليه بأقدامهم، حطموه
ومزقوه ونثروا أشلائه على طول الجبهة .
وقد كان
بالمقدور أن يتعايشوا معه، أن يوجدوا الصيغ التفاهمية ليصبحوا جزءاً منه، لكن
أبداً ما كان هذا ولا سيكون، فكان الإبداع في الموت وفي الحياة على السواء، فأصبحت
ترى فيهم كل شيء، تلمح ملامح الأمل البعيد، يصنعون الهوية ويسطرون التاريخ، وأما
التكلفة فليست مهمة، فهي وإن كانت باهظة إلا أنها أسهل من شربة الماء .
نعم قد
ترى أجسادهم ملقية على امتداد الجرح، أو ربما لا تجد إلا أشلاءً منها هنا وهناك،
فترعبك فكرة الموت في ريعان الشباب، لأنك تظن بأن الإنسان عليه أن يعيش طويلاً
طويلاً، لكن ليست هكذا المعادلة، فإن كنا نرى الأجساد الملطخة بالدماء قد توقفت عن
الحراك، لكن كل هواجس الموت تتبدد عندما تشاهد وصاياهم .. صورهم .. مذكراتهم ..
إنهم يبثون فيك الحياة من الجديد، يزيدونها قوة على قوة، يرفعون من منسوب الكرامة
ويصعدون بها للذروة، فهنا لا يمكنك أن تتحدث عن موت عادي، أبداً .
وعليك منذ
اللحظة، أن تتذكر عار العرب، العار الذي خلفك وأحلام أحفادك بأن لا يرثوه عنك،
تفكر فيه جيداً، وهيء لنفسك مقتلة وملحمة، تُذكر بها كلما ذُكِرَت وتُذكَر هي بك
كلما ذُكرت، وأورث أهلك بطولة صنعتها، أورثهم حزاماً ناسفاً وأنشودة جهادية، ووصية
تذكرهم فيها بفضائل الموت الثوري، فما أجمل الثائرين وما أجمل مقاتلهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق