السبت، 8 يونيو 2013

"الإدراك الذاتي" بداية البداية لتأسيس الشخصية الحضارية .





تبدأ مسيرة البناء والتوسع الحضاري في اللحظة التي يتمكن منها "إنسان الحضارة" من إدراك ذاته ووعيه وماهيتهما وأهدافهما، هذا "الإدراك" الذي يجعله مُدركٌ تمام الإدراك لرسالته ووظيفته ومركزه الكوني، مما يعطيه دافعية مطلقة لتحقيق ما يريد .

صحيح أن الوصول لمرحلة الإدراك الذاتي تتطلب تفاعلاً وجهداً مضنياً لتحقيقه، ولكن بجانب هذه الديمومة التفاعلية "الضرورية" يتطلب الأمر معرفة الأمة التي ترغبُ في التغيير معرفة هذا "المصطلح" والذي وإن كانت الأمم لم تعرفه كـ"مصطلح أكاديمي أو معرفي" بل عرفته كـ"تطبيق" وكـ "تجربة" حفل بها التاريخ كثيراً، كحركة الفتح الروماني المُذهلة التي عمت الكثير من مساحات العالم، والتي أعقبها صعود سريع لحنبعل الذي كاد أن يحطم الامبراطورية الرومانية بسرعة وهو ابن الدولة الصغيرة والجيش المحدود .

والأمر يشبه أيضاً حركة "الفتح الإسلامي" السريعة والأسطورية في فترة قياسية "أقل بكثير من زمنية الفتح الروماني"، هذا الفتح الذي كان نتاج "وعي" و "معرفة" المسلمين لماهية وظيفتهم ورسالتهم في هذا الكون، وإخلاصهم لفكرة "نشر التوحيد والرسالة المحمدية" في كل ربوع المعمورة، مما جعل الفتح يرتكز بشكل كبير جداً -بجانب عوامل الضعف التي اعترت دولة الروم والفرس- على دافعية المسلمين أنذاك .

كذلك الحال مع التوسع الفرنسي بقيادة نابليون عُقب الثورة الفرنسية، وتأثير مبادئ الثورة على دافعية الجند التي كانت أعلى من جميع جيوش أوروبا، والحال نفسه مع ألمانيا النازية واندفاعيتها الهادرة والمرعبة التي مكنتها من إخضاع اوروبا لسطوتها .

هذا "الإفراط" في ذكر بعض التجارب التاريخية حول أهمية "الإدراك الذاتي" كان هدفه هو "تعميق" أهمية هذه القضية في النفوس، لندرك دورنا وماهيته في ظل هذه المتغيرات، ولمقاومة كل صور "تفكيك" هذا الإدراك الناتجة عن تأثير "العولمة" والثقافة الليبرالية الغربية التي تعمل على إحلال مبادئ مكان مبادئ وثقافة مكان ثقافة، ذلك أن أول مطالب الوصول لمرحلة "الإدراك" تكمن في اعتمادها على أرضية صلبة متمثلة بثقافة أصيلة وعريقة وممتدة، فالمجتمعات ذات البعد الحضاري المحدود لا يمكن أن تُدرك ذاتها إلا بعد عملية تاريخية زمنية ممتدة تتمكن من خلالها من تكوين "تاريخ" يُمكنها من "إدراك ذاتها" وخلال هذه الفترة فستبقى عرضة للتجاذبات الثقافية والحضارية لحضارات المركز أو الجوار الطاغية .

ورغم أن منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً الدول العربية بدأت تدرك ذاتها الحقيقية من خلال "ثورات" الربيع العربي وقبل ذلك من خلال حركات المقاومة في بعض الدول العربية التي عملت بكل جهد على منع الهزيمة النفسية وتعميق الشعور بالذات، لكن الأمر يحتاج لمزيد من عملية "الإدراك الذاتي" لدورنا كأمة، وهل بمقدورنا انتزاع مركزية الحضارة على المستوى المتوسط أو البعيد، ذلك أن الحضارة الغربية تمر بمرحلة سقوط "أخلاقي" و "روحاني" مهما حاول بعض المصلحين إصلاح الخلل مثل "تشاموسكي" و "مامفورد" و "روزاك" وغيرهم من فلاسفة الحضارة الغربية، ومهما حاول "اللاهوت" المسيحي الوصول لموائمة وتسوية مع الفكر المادي/الالحادي/العلماني واختراع فكر مسيحي جديد يتواءم مع حضارة مع بعد الحداثة، كذلك مهما كثرت مصطلحات التنبؤ بنهاية العالم وانتصار الحضارة الغربية كما يؤرخ الكثير من متعصبي الحضارة الغربية على جميع الحضارات الأخرى، إلا أن الواضح هو أن هناك خللاً كبيراً وفجوة تتسع يوماً بعد يوم داخل الحضارة الغربية المادية، سببها تطرف الحضارة /الاقتصادي/المادي/العلماني/الثقافي وافراطها في التعصب ونظرة "الأنا" الفوقية، فضلاً عن إقصاء العامل الروحاني الذي يشكل عصباً مهماً في حفظ التوازن النفسي والاجتماعي لدى البشر .

كل ذلك يتطلب منا مرة أخرى بدء عملية إدراكية واسعة لثقافتنا ورسالتنا ومقدرتنا حول البقاء أولاً ثم التمدد والانتشار وتكوين حضارة عالمية أخلاقية تتناسب مع أصول حضارة هذه المنطقة وينابيعها الأخلاقية الإسلامية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق